بينما كنت ألعب مع زملاء الحضانة في مدخلها ؛ إذ اقتحمها مُنقضَّاً علينا غـولٌ كبيرٌ ضخمٌ أسودٌ أشعثٌ مطموسُ الملامح قاصداً إيـَّاي . في لمح البصر كان زملائي قد تلاشوا تاركيني وحدي . هاجمني الغـول ؛ فحاولت الفرار منه قافـزاً فوق (دكـك) الحضانة التي لم تكد قدمي تطـأ إحداها إلا و تسقط ؛ ظل يطـاردني ؛ و ظللت أهرب منه خائفاً مزعوراً ؛ حتى ارتميت مُحاصراً مُنهكاً في ركنٍ مُنزوٍ و تكوّمت على نفسي ؛ فانقضَّ عليَّ ؛ فاستيقظتُ مفزوعاً ناهياً تلك المطاردة لصالحي متحسساً جسدي : أأنا حي ؟؟!! . ظل هذا الحُلم يطاردني طوال سنتيّ الحضانة و حتى سنتي الأولى بالمرحلة الإبتدائية ؛ و للحق ؛ فأنا لا اذكر في حياتي حُلماً بهذا التفصيل كمثله حُلم .
لم تكن علاقتي بزملاء الحضانة تصل حتى لمنزلة الأصحاب . كانوا مجرد رفقاء مكانٍ واحدٍ و (دكةٍ) واحدة . لم أجد نفسي بينهم على أيـَّة حـال . فقد كانوا يستضعفونـّي و يستهينون بي لما بي من (ضعف نظر) ؛ ما جعلهم يستغلون هذا في كيل الضربات إلىَّ و اللكمات متلذذين بافتقاري القدرة على ردّها لعدم استطاعتي تحديد موجُّهها . حتى إن حدث و حدَّدته فلم أكن أجرؤ على ردها إليه لخوفي من أن يباغتني بأخرى لا أعرف من أين تاتي ولا أين تحطّ ؛ و قد كان هذا الأمر موضع عظيم لسخريتهم مني . ساظل أذكر ما حييت ما فعلته حين استبد بي الغضب و مللت ضعفي و ما يفعلونه معي استناداً عليه . اختمرت الفكرة في رأسي , و خططت لها جيداً , و نفذت خطواتها الأولى بإتقان و نجاح ؛ حتى انكشَفَتْ و فَسَدَتْ بمجرد إخباري أحدهم في الحضانة : "أنا معايا سكينة في الشنطة و اللي هيضربني هاضربه بيها" . لم يكد يسمع مني تلك الكلمات حتى عرفت بها (أبلة عزة) التي صعقها الموقف و نظرت لهذا المجرم الحَدَث الصغير نظرة اشمئزازٍ لن تًمحيها من ذاكرتي السنين . أرسلت بي من فورها إلى أمي مع أكبرهم ليُبلّغها ما اقترفته . مازلت أذكر فزعها مني و وقوفي أمامها باكياً مرتعباً شارحاً لها أني ما كنت لأجرؤ على استخدام هذا السكين مع أحدهم و أنه كان فقط لإخافتهم حتى لا يقدمون على ضربي ثانيةً . لا أعي جيداً ما صدر منها حينها ؛ لكنَّ أغلب ظنّي أنها رفقت بي و تفهّمتني .
تظل حضانة (أبلة عزة) الشاهد الأول على ميلاد أولى خفقات قلبي و رفرفاته في حضرة أنثى . ابنة صاحب الحضانة التي كانت تكبرني بعام . تلك الفتاة الأسطورية الملائكية الشقراء التي كانت حلماً - بعيد المنال - لذكور أطفال الحضانة جميعهم . فتاةٌ أرستقراطيةٌ مُرفهةٌ مثلها - فأباها صاحب حضانة - ما كانت لتنظر ولا تعطي أدنى اعتبار لهؤلاء الصبية الذين جاءوا كي يرعوا في مُلك أبيها ؛ للدرجة التي جعلتها لا تتكلم معنا ولا مع (أبلة عزة) إلا من موضعها واقفةً فوق أعلى درجات سُلم بيتهم الذي كان يحتوي الحضانة . طلّتها علينا كانت بمثابة البلسم الذي يمحو آثار مُر العذابات التي كنت أتجرَّعها في الحضانة . أعتى أحلامي حينها كان مجرد اقدامي على الكلام معها و هو ما لم يصادفه التحقٌُّق ليقيني أنني إذا كنت ما كنت عليه ؛ فضلاً عن كوني لا أستطيع حتى تبيُّن ملامحها جيداً فهل من الممكن أن تكون قد رأتني أو أخذت بالها مني و هي هي . ظللت على هذا الحال أيام طوال حتى حدث ما حدث و انقبض قلبي منها و نفر . يومها لم يكن متبقِّي سوى أيامٍ معدودات و يصدر إلينا شهر رمضان . كنا في مُختتم اليوم الدراسي بالحضانة ؛ حتى جائت و فاجئتنا بلعبتيـها الجديدتيـن اللاتـي اشتراهما لها أبـاها . (الفانـوس الذي يعمل بالبطاريـة) و (المسدس الذي يُصدر شرراً) سحرت أعين الجميع بهما ؛ فنحن لم نكُ قد رأينا من قبل مثلهما مثيل . تهافتوا عليها راجينها السماح لهم بمجرد الإمساك بهما ؛ فرفضت و نهرتهم بشدة و هربت منهم قاصدةً موضعها أعلى السلم و صرخت فيهم بعـُلـُوٍّ و عـُتـُوٍّ و نفور . تعجّبتُ و فزعتُ مما فعلتْ و انقبض قلبي منها و نَفَر ؛ فمالِ هذه المغرورة الخرقاء تتغطرس و تتعالى علينا و تتكبَّر و كأن الله لم يخلق مثل أبيها رجلاً ثرياً و صاحب حضانة .
تطل (أبلة عزة) على وجداني يومياً بلا انقطاع ؛ فأنا لن أنسى أبدأ يوم أن علمتنا كيف أن بسملتنا و استعاذتنا الدائمة من عدوِّنا المُبين الشيطان الرجيم عند مأكلنا و مشربنا و منامنا و صحونا و ذهابنا و مجيئنا و على كل حال تُكبته و تُخزيه و تُبعده عنا لتذهب به إلى أسفل سافلين خائباً مخذولاً . نقلت ذلك إلينا بحوار بسيط مُبسَّط بين أخوين من الشياطين أحدهما سمين و متين و الآخر نحيف و مهين ؛ فالأول كان يسكن مع أهل بيتِ يًكرمونه و يُشركونه معهم في مأكلهم و مشربهم لتركهم ذكر الله و الإستعاذة من الشيطان الرجيم ؛ و الثاني كان يسكن مع أهل بيت ينبذونه و يخذلونه بذكرهم الدائم لله و استعاذتهم من الشيطان على كل حال . هذه الصورة منقوشة حفراً على جدران ذاكرتي ؛ و لا تمر عليّ مرة أبسمل فيها أو أستعيذ فيها من الشيطان الرجيم إلا و ترتسم أمامي .
أحببت (أبلة عزة) حُباً كبيراً حتى أنها كانت لي بمثابة أمي السادسة بعد أمي و جدتي - رحمها الله - و خالتيَّ و أبلة نبيلة جارتنا التي كانت تسكن الطابق الأرضي . أحببتها للدرجة التي أحزنتني و أبكتني حينما حان الوقت لتركي الحضانة و التحاقي بالمدرسة حزناً لم يُطيّبه قليلا إلا مصادفة أن تكون مُعلَّمتي في صفي الأول الإبتدائي تًدعى هي الأخرى (أبلة عزة) . ظلّت (أبلة عزة) مُهيمنةً عليّ هيمنةً كاملة و مُحلِّقة في أجوائي تحليقاً لم يقطعه و يُنهيه إلا صدمتي حينما ذهبت إليها في الحضانة بعد شهرين من مداومتي بالمدرسة كي أراها و تراني و أطمئنَّ عليها و تطمئنَّ عليّ ؛ فإذ بها لا تعبأ بمجيئي ولا تحفل بي كما كانت تفعل مع زملائنا الكبار حين يأتون إليها حتى ظننت أنها لا تعرفني . خرجت من الحضانة خائباً محزوناً مصدوماً في (أبلة عزة) التي نكرتني مُقرِّراً أن هذه ستكون آخر مرة أُقدم فيها على زيارتها و رؤيتها ؛ راضياً أن تكون فقط ذكرى جميلة حدثت في حياتي ؛ راجياً آملاً ألا يحدث مجدداً ما قد حدث معها مع مُعلّمتي الجديدة (أبلة عزة) .