Tuesday 28 September 2010

في الحضانة ( 2 \ 2 ) - أمي السادسة

بينما كنت ألعب مع زملاء الحضانة في مدخلها ؛ إذ اقتحمها مُنقضَّاً علينا غـولٌ كبيرٌ ضخمٌ أسودٌ أشعثٌ مطموسُ الملامح قاصداً إيـَّاي . في لمح البصر كان زملائي قد تلاشوا تاركيني وحدي . هاجمني الغـول ؛ فحاولت الفرار منه قافـزاً فوق (دكـك) الحضانة التي لم تكد قدمي تطـأ إحداها إلا و تسقط ؛ ظل يطـاردني ؛ و ظللت أهرب منه خائفاً مزعوراً ؛ حتى ارتميت مُحاصراً مُنهكاً في ركنٍ مُنزوٍ و تكوّمت على نفسي ؛ فانقضَّ عليَّ ؛ فاستيقظتُ مفزوعاً ناهياً تلك المطاردة لصالحي متحسساً جسدي : أأنا حي ؟؟!! . ظل هذا الحُلم يطاردني طوال سنتيّ الحضانة و حتى سنتي الأولى بالمرحلة الإبتدائية ؛ و للحق ؛ فأنا لا اذكر في حياتي حُلماً بهذا التفصيل كمثله حُلم .
لم تكن علاقتي بزملاء الحضانة تصل حتى لمنزلة الأصحاب . كانوا مجرد رفقاء مكانٍ واحدٍ و (دكةٍ) واحدة . لم أجد نفسي بينهم على أيـَّة حـال . فقد كانوا يستضعفونـّي و يستهينون بي لما بي من (ضعف نظر) ؛ ما جعلهم يستغلون هذا في كيل الضربات إلىَّ و اللكمات متلذذين بافتقاري القدرة على ردّها لعدم استطاعتي تحديد موجُّهها . حتى إن  حدث و حدَّدته فلم أكن أجرؤ على ردها إليه لخوفي من أن يباغتني بأخرى لا أعرف من أين تاتي ولا أين تحطّ ؛ و قد كان هذا الأمر موضع عظيم لسخريتهم مني . ساظل أذكر ما حييت ما فعلته حين استبد بي الغضب و مللت ضعفي و ما يفعلونه معي استناداً عليه . اختمرت الفكرة في رأسي , و خططت لها جيداً , و نفذت خطواتها الأولى بإتقان و نجاح ؛ حتى انكشَفَتْ و فَسَدَتْ بمجرد إخباري أحدهم في الحضانة : "أنا معايا سكينة في الشنطة و اللي هيضربني هاضربه بيها" . لم يكد يسمع مني تلك الكلمات حتى عرفت بها (أبلة عزة) التي صعقها الموقف و نظرت لهذا المجرم الحَدَث الصغير نظرة اشمئزازٍ لن تًمحيها من ذاكرتي السنين . أرسلت بي من فورها إلى أمي مع أكبرهم ليُبلّغها ما اقترفته . مازلت أذكر فزعها مني و وقوفي أمامها باكياً مرتعباً شارحاً لها أني ما كنت لأجرؤ على استخدام هذا السكين مع أحدهم و أنه كان فقط لإخافتهم حتى لا يقدمون على ضربي ثانيةً . لا أعي جيداً ما صدر منها حينها ؛ لكنَّ أغلب ظنّي أنها رفقت بي و تفهّمتني  .
تظل حضانة (أبلة عزة) الشاهد الأول على ميلاد أولى خفقات قلبي و رفرفاته في حضرة أنثى . ابنة صاحب الحضانة التي كانت تكبرني بعام . تلك الفتاة الأسطورية الملائكية الشقراء التي كانت حلماً - بعيد المنال - لذكور أطفال الحضانة جميعهم . فتاةٌ أرستقراطيةٌ  مُرفهةٌ مثلها - فأباها  صاحب حضانة - ما كانت لتنظر ولا تعطي أدنى اعتبار لهؤلاء الصبية الذين جاءوا كي يرعوا في مُلك أبيها ؛ للدرجة التي جعلتها لا تتكلم معنا ولا مع (أبلة عزة) إلا من موضعها واقفةً فوق أعلى درجات سُلم بيتهم الذي كان يحتوي الحضانة . طلّتها علينا كانت بمثابة البلسم الذي يمحو آثار مُر العذابات التي كنت أتجرَّعها في الحضانة . أعتى أحلامي حينها كان مجرد اقدامي على الكلام معها و هو ما لم يصادفه التحقٌُّق ليقيني أنني إذا كنت ما كنت عليه ؛ فضلاً عن كوني لا أستطيع حتى تبيُّن ملامحها جيداً فهل من الممكن أن تكون قد رأتني أو أخذت بالها مني و هي هي . ظللت على هذا الحال أيام طوال حتى حدث ما حدث و انقبض قلبي منها و نفر . يومها لم يكن متبقِّي سوى أيامٍ معدودات و يصدر إلينا شهر رمضان . كنا في مُختتم اليوم الدراسي بالحضانة ؛ حتى جائت و فاجئتنا بلعبتيـها الجديدتيـن اللاتـي اشتراهما لها أبـاها . (الفانـوس الذي يعمل بالبطاريـة) و (المسدس الذي يُصدر شرراً) سحرت أعين الجميع بهما ؛ فنحن لم نكُ قد رأينا من قبل مثلهما مثيل . تهافتوا عليها راجينها السماح لهم بمجرد الإمساك بهما ؛ فرفضت و نهرتهم بشدة و هربت منهم قاصدةً موضعها أعلى السلم و صرخت فيهم بعـُلـُوٍّ و عـُتـُوٍّ و نفور . تعجّبتُ و فزعتُ مما فعلتْ  و انقبض قلبي منها و نَفَر ؛ فمالِ هذه المغرورة الخرقاء تتغطرس و تتعالى علينا و تتكبَّر و كأن الله لم يخلق مثل أبيها رجلاً ثرياً و صاحب حضانة .
تطل (أبلة عزة) على وجداني يومياً بلا انقطاع ؛ فأنا لن أنسى أبدأ يوم أن علمتنا كيف أن بسملتنا و استعاذتنا الدائمة من عدوِّنا  المُبين الشيطان الرجيم عند مأكلنا و مشربنا و منامنا و صحونا و ذهابنا و مجيئنا و على كل حال تُكبته و تُخزيه و تُبعده عنا لتذهب به إلى أسفل سافلين خائباً مخذولاً . نقلت ذلك إلينا بحوار بسيط مُبسَّط بين أخوين من الشياطين أحدهما سمين و متين و الآخر نحيف و مهين ؛ فالأول كان يسكن مع أهل بيتِ يًكرمونه و يُشركونه معهم في مأكلهم و مشربهم لتركهم ذكر الله و الإستعاذة من الشيطان الرجيم ؛ و الثاني كان يسكن مع أهل بيت ينبذونه و يخذلونه بذكرهم الدائم لله و استعاذتهم من الشيطان على كل حال . هذه الصورة منقوشة حفراً على جدران ذاكرتي ؛ و لا تمر عليّ مرة أبسمل فيها أو أستعيذ فيها من الشيطان الرجيم إلا و ترتسم أمامي . 
أحببت (أبلة عزة) حُباً كبيراً حتى أنها كانت لي بمثابة أمي السادسة بعد أمي و جدتي - رحمها الله - و خالتيَّ و أبلة نبيلة جارتنا التي كانت تسكن الطابق الأرضي . أحببتها للدرجة التي أحزنتني و أبكتني حينما حان الوقت لتركي الحضانة و التحاقي بالمدرسة حزناً لم يُطيّبه قليلا إلا مصادفة أن تكون مُعلَّمتي في صفي الأول الإبتدائي تًدعى هي الأخرى (أبلة عزة) . ظلّت (أبلة عزة) مُهيمنةً عليّ هيمنةً كاملة و مُحلِّقة في أجوائي  تحليقاً لم يقطعه و يُنهيه إلا صدمتي حينما ذهبت إليها في الحضانة بعد شهرين من مداومتي  بالمدرسة كي أراها و تراني و أطمئنَّ عليها و تطمئنَّ عليّ ؛ فإذ بها لا تعبأ بمجيئي ولا تحفل بي كما كانت تفعل مع زملائنا الكبار حين يأتون إليها حتى ظننت أنها لا تعرفني . خرجت من الحضانة خائباً محزوناً مصدوماً في (أبلة عزة) التي نكرتني مُقرِّراً أن هذه ستكون آخر مرة أُقدم فيها على زيارتها و رؤيتها ؛ راضياً أن تكون فقط ذكرى جميلة حدثت في حياتي ؛ راجياً آملاً ألا يحدث مجدداً ما قد حدث معها مع مُعلّمتي الجديدة (أبلة عزة) .

Thursday 2 September 2010

في الحضانة ( 1 \ 2 ) - أبلة عزة يا حلاوتها

أذكر جيداً أنني كنت طفلاً هادئاً جداً هدوءاُ كلما تذكرته الآن أمقته و أسخط عليه ؛ لكنه مع أية حال قد كان طبيعتي و سمتي .
يبدو أن أمي قد توسمت فيّ خيراً منذ صغري و شعرت أن الواد ده ييجي منه ؛ فأرسلتني إلى الحضانة عند مُفتتح سنتي الرابعة لأنهل من المعرفة نهلاً و أتعلم القراءة و الكتابة و الحساب اختيارياً قبيل التحاقي بالتعليم الإلزامي علّني حينها أتفوق على رفاقي الصغار و أبلغ من النبوغ مبلغاً  , أو على ما أظن - و هو الأرجح - أنها كانت العادة حينما يبلغ الصغير سنته الرابعة يدفعونه إلى الحضانة دفعاً - كان أغلبنا من الصغار -  مُكرهين عليه مغصوبين , و لكن ما باليد حيلة ؛ هتروح الحضانة يعني هتروح الحضانة .
أرسلتني أمي إلى حضانة "أبلة عزة" التي لا تبعد عن بيتنا سوى عشرات أمتارٍ قليلة ؛ و التي مكثت فيها عامين حتى بلغت سن القبول للتعليم الأساسي .
الغريب في الأمر أنني و رغم حداثة سني حينها و رغم قِصر المدة التي أمضيتها في الحضانة و رغم تباعد السنين إلا أنني أذكر عشرات المواقف التي مرت بي فيها على عكس المرحلتين الإبتدائية و الإعدادية اللاتي لا أذكر منهما سوى قليل القليل !!
حضانة "أبلة عزة" ؛ أبلة عزة العطوفة الهادئة الطيبة التي كان كل أطفال الحي ممن يذهبون إلى حضانتها يحبونها حباً  جارفاً كان يتحول في كثيرٍ من الأحيان إلى تعصُّب حينما يجادلهم فيها أصدقائهم الصغار ممن يذهبون إلى حضانة "أبلة نشوة" الشريرة التي كانت دائمة السباب و الضرب و الصوت العالي المسرسع الكريه .
كانت أوج ملامح و سمات الجدال بيننا و تعصب كلٍ لأبلتهم حينما نقوم بتلاوة النشيد المقدّس لحضاتنا الميمونة و الذي كنا ننشده يومياً في مفتتح اليوم الحضانيّ و منتصفه و منتهاه و في كل وقت ينقح علينا فيه عِرق محبة أبلتنا الطيبة  "أبلة عزة" و الذي كان نصه : 
" أبلة عزة يا حلاوتها , مين يدّيني صورتها , هي هنا ؟ , لأ مش هنا , لازم تكون عند الأطفال , سقفة هنا , و سقفة هنا , هيييييييه - تصفيق" .
لا أعرف حقاً من هذا الشرير الذي قام بتأليف هذه الأنشودة البلهاء ؛ و الذي جعل أقصى أحلامي و طموحاتي  طوال عامين من عمري أن أحصل على صورة "أبلة عزة" أو أن أعرف مكان هؤلاء الأطفال الذين تتركنا من أجل أن تذهب إليهم  , و هل هم فقط الأطفال و نحن ما سواهم ؟ , يا ترى أهم أجمل منّا أم أكثر أدباً أم ما الشيء العظيم الذي يميزهم و ينقصنا حتى يجعل "أبلة عزة" تتركنا  لأجلهم ؟؟ ؛ للحق كان هذا هو جُلّ ما يشغل بالي و يؤرق نومي خلال تلك الفترة من عمري .
 مولودٌ أنا بنعمة قِصر النظر ؛ و لم أرتدِ نظارة طبية إلا حين بلغت سن الخامسة ؛ مما يعني أنني ظللت سنة بكاملها في الحضانة برؤية ضبابية جاهلاً تفاصيل كل ما و من يبعد عني أكثر من خمسة و عشرين سنتيمتراً ؛ محاولاً تبُّين كل ما يبعد عني بأكثر من هذه المسافة ضاغطاُ عضلات عيني مقلصاً المسافة بين جفنيّ في حركة لا إرادية أغلبنا يقوم بها  حين يضحك .
رغم ذلك فقد كنت أجلس في آخر "دكة" في الفصل الدراسي معتمداً فقط على حاسة السمع لأعرف ما تقوم "أبلة عزة" بإلقائه علينا .
من أجل هذا فأنا لا أذكر ملامح "أبلة عزة" إطلاقاً ؛ فهي لم تقترب مني و لم أتعامل معها مباشرةً تعامل رجل لرجل سوى مرةٍ واحدةٍ فقط سأظل أذكرها ما حييت .
يومها كنت قد مللت من اجتهادي في سماع ما تقوله خاصة و أنها كانت تقوم برسم توضيحي لما تقول على "السبورة" و التي كان تحليقي في السماء عالياً دون أجنحة أسهل من أن أرى ما عليها من نقوشٍ و تعاويذ ؛ فانسللت من مكاني بـالدكة الأخيرة ذاهباُ إلى المسقط - و هو منور المنزل الذي كان يقع به مقر الحضانة - و الذي كان أصحاب المنزل يربّون فيه "حماماً" و هو ما كان عشقي و معشوقي حينها .
حتى الآن لا أعرف من الوغد الذي قام بالفتنة عليّ عند "أبلة عزة" التي ما إن التفتُّ إلا و وجدتها مصوبةً إليَّ نظراتٍ مستعرةً  و أنا أداعب الحمام في لطف و براءة . في أقل من دقيقة أمرت اثنين من عتاولة أطفال الحضانة بسحبي و تكتيفي في كرسي المدّ ؛ و المدّ لمن لا يعرفه هو صنف من صنوف العذاب المهين . يقوم فيه المُعذِّب بضرب المُعذَّب على قدميه الحافيتين بواسطة عصاه خشبية  , طويلة , رفيعة , اسطوانية الشكل , مصمتة , ملساء , كهربائية النزعة , جمرية التأثير تُسمّى بالعامية "الخرزانة" ؛ أمرتهم أن يُحكموا الإمساك بي ثم أخذت تُكيل إليّ الضربات على قدميّ الصغيرتين العاريتين غير آبهةٍ ببكائي و توسلاتي و قسمي لها أنها ستكون آخر مرة أدخل فيها "المسقط" و ألعب فيها مع "الحمام" . حين انتهت أمرتني أن أجري على قدميّ طوال محيط الفصل ؛ و هو الأمر المتعارف عليه بعد عملية "المدّ" حتى لا تتورم القدمان . أذكر حينها أنني مشيت بضع خطىً قليلة ثم توقفت غير متاثرٍ بوجع الضربات قدر تأثري بوجع إهانتي أمام زملاء الحضانة كافة ؛ و كانت تلك هي أول و آخر مرة "أتمدّ" فيها على رجلي  .
أكتفي بهذا القدر من السرد منعاً لملل الإطالة ؛ و للحديث بقية .