الأب.. هذه القيمة العظيمة في حياة كلٍ منا. الناصح, المعلم, المرشد, الموجِّه, السند, و كثيراً... القُدوة.
أمّا هو.. فله قصةٌ أخرى.
كثيراً ما ينسب فضل اكتسابه بعض الصفات السيئة إلى أبيه. هذا الساكن معهم منذ أن فتح عيونه على الدنيا. صفات كان يرعاها أبوه بطريقة غير مباشرة؛ أو إن شئت قل دون أدنى تدخّل منه.
كيف؟!!
كثيراً ما يتذكر كلٌ منا أيام طفولته و مواقفه مع والديه في تلك الفترة التي يكون فيها الوالدان أقرب ما يكونان إلى صغيرهما بحُكم تنشئة هذا الوافد الجديد إلى الدنيا. هو لا يعلم إن كان هذا بسبب ما يعرف عنه من ضعف ذاكرة أم ماذا؟. و لكنه – حقيقةً - لا يتذكر أي موقف له مع أبيه و لم يعرف معنىً لهذه العلاقة.
كثيراً ما كان أبوه مشغولاً عنهم بنفسه. رغم ذلك لم يكن يكرهه بل كان يتمناه. كثيراً ما كان يلتمس له العذر؛ ففاقد الشيء لا يُعطيه. كيف يستشعر -من لم يشعر بأبيه- كونه أباً؟. و لكن هل يُعقل دوام هذا؟
لا يتذكر أباه ناصحاً له مرة. لا يتذكره مرشداً, لا يتذكره موجِّهاً, لا يتذكره معلماً.. يتذكره غاضباً, يتذكره معاقباً, يتذكره ضارباً.
أبوه هو أحد الرعاة الرسميين و الرئيسيين لمبدأ " اتركه يُخطئ ليتعلم بنفسه ". يحكي لي كم أنه يكره هذه العبارة. تلك التي شكّلت الحاجز الأكبر بين أبيه و بينه.
هو يتفهم أن يتم تطبيق هذا المبدأ "جزئياً" على صبي, مراهق, شاب؛ و لكن أن يتم تطبيقه على طفل فهذا ما لا يفهمه.
أصبح بهذه الطريقة طفلاً ليس كباقي أطفال عائلته. يخشى النزول للّعب معهم في الشارع حتى لا يخطئ. لا يتكلم كثيراً حتى لا يخطئ. في داخله الرغبة و لكنه يمتنع حتى لا يخطئ. كان يريد أن يكون عند حُسن ظن أبيه به.
يحكي لي الآن كم يندم أنه كان كذلك.
وصفوه منذ صغر سنه بأنه شخص عاقل و مؤدب و على قدر من المسئولية.
لعل كونه كذلك - يرغب فيمتنع لكيلا يخطئ؛ فيسعد أبوه به..رغم أنه –أي أبيه- لم يكن يعلم أنه كان يفعل ذلك لذلك - هو السبب في ازدواجية الشخصية التي يعاني منها و هذه أهم صفاته السيئة المكتسبة و التي تعتبر القاعدة لغيرها من أدران يعاني منها في شخصيته و ليس في أخلاقه و لله الحمد كله على ذلك.
حين قرأ مقالتي هذه قال لي : السطر الأول من هذه المقالة هو محض كلام لم أشعر بأيٍ مما فيه؛ بل إنني كثيراً ما كنت أستغرب حديث البعض عن أبيه و إحساس النشوة التي تصل لحد الفخر التي تغلف كلامه عنه. هل هذا الشخص يستحق هذا الكلام؟ ماذا يفعل؟ و من يكون؟ و كيف هو؟
أصدقك القول أنني حين كنت أذهب لتأدية واجب عزاء لأحد زملائي في وفاة والده لم يكن الحزن الذي كان يتملكني حتى البكاء و يظهر على كلامي حين أواسيه هو حزن علي فقدان أب؛ بل هو حزن نتيجة استشعار قيمة الموت لذاته دون ماهية الميت.
ذكر لي أيضاً أنه كان يعامل شخصاً ثم أثنى هذا الشخص عليه و قال أن من المؤكد أن والده رجل عظيم؛ و نسب ما لمسه هو من خير فيه إلى أبيه. يذكر لي أنه في تصرف لا إرادي وجد نفسه ينفي بسرعة و بشدة هذا النسب دون أدني درايةٍ منه أن هذا النفي قد يُسيء له قبل أبيه؛ و لكنه في تصرفه هذا لم يفكر إلا في شيءٍ واحد و هو إحقاق الحق ليس إلا دون النظر لما قد يًُفهم من وراء كلامه.
خلاصة القول.. هل حقاً فاقد الشيء لا يُعطيه؟ أم أنها مسألة مبدأ و إرادة؟
حقاً كم ترعبه تلك المقولة التي عنونت بها كلامي.
هل سيصبح أباً فاشلاً بحكم ما عاشه من واقع؟ أم أن رغبته في تصحيح هذا العطب على نفسه وحياته ستساعده على النجاح؟
و يبقى التوفيق و الرزق من عند الله.
هل سيكون قريباً من أبنائه؟ هل سيفهمهم؟
هل الأبوة مثل الأمومة فطرة؟ أم مهارة مكتسبة تحتاج لاستعداد و تجهيز و تعلّم و ادراك و وعي؟ أم إنها مثل باقي العلاقات الإنسانية تأتي فقط بالممارسة و دوام المعاملة